مرت القضية الفلسطينية بعديد من المراحل حتى تبلور الشكل الحالي لفصائل المقاومة وآلياتها. وكان الاحتلال الإسرائيلي ثابتاً في طريقة التعاطي مع تلك المتغيرات، كلما برز قائد يجب اغتياله. سواء كان قائداً مقاوماً بالسلاح أو مقاوماً بالكلمة كغسان كنفاني. لكن كان لاغتيال قادة العمل الميداني أولوية على رأس قائمة الاغتيال، فيحقق من خلفها هدفاً دعائياً، ومكسباً عسكرياً قد يتحول إلى فوز سياسي.
آخر تلك الاغتيالات كان فجر اليوم الأربعاء 31 يوليو، إذ أعلنت حركة المقاومة الإسلامية حماس، اغتيال رئيس المكتب السياسي لها. الذي جرى عبر غارة على مقر إقامته في طهران، بعد أن سافر إسماعيل هنية للمشاركة في تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشيكان.
هنية أبو العبد كما يُلقب انتخب رئيساً للمكتب السياسي عام 2017 خلفاً لخالد مشعل. وقبل ذلك الانتخاب تواتر دخوله للسجون الإسرائيلية فسُجن لستة شهور ثم لثلاث سنوات. وعام 1992 قامت إسرائيل بإبعاده إلى جنوب لبنان. وعاد إلى غزة عام 1993، وأصبح عميداً للجامعة الإسلامية. وكان مقرباً من الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، فأصبح ذات ثقلٍ فيها، وأصبح الوسيط بين الحركة السلطة الفلسطينية.
اعتبرته الولايات المتحدة الأمريكية عام 2018 إرهابياً، وفرضت عليه عديداً من العقوبات. وبعد عملية طوفان الأقصى فقد إسماعيل هنية عديداً من أهله وأفراد أسرته، أبناء وأحفادا وأقارب، في الحرب الأخيرة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023.
سبق هنية في الشهادة عديد من القادة على اختلاف مشاربهم. لكن أقربهم زمنياً وميدانياً له، كان صالح العاروري نائب رئيس حماس، وقائد الحركة في الضفة الغربية. اُغتيل باستهداف مقره بطائرة مسيّرة في الضاحية الجنوبية ببيروت. قضى العاروري أكثر من 10 سنوات في السجون الإسرائيلية. وأدار من داخل سجنه مفاوضات صعبة في قضية تبادل الأسرى مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط.
من أبرز الاغتيالات كذلك اغتيال كمال عدوان. السياسي والقائد الفلسطيني، من مواليد عام 1935. والعضو في أول مجلس وطني فلسطيني عام 1964، ومؤسس حركة التحرير الوطني، فتح. وكان من أصحاب فكرة إدخال العبوات الفدائية للعمل المقاوم. كذلك كان صاحب فكرة إنشاء عدد من مجموعات العمل الفدائي، تتواصل معه مباشرة، دون أن تتواصل مع بعضها، لتجنب اكتشاف الهيكل الكامل للمنظمة حال اكتشف الاحتلال أحد المجموعات. وهى الفكرة التي نفذتها كتائب القسام في الاستعداد لطوفان الأقصى.
في أبريل عام 1973، اتخذت إسرائيل القرار باغتياله. فحرّكت 19 زورقاً مطاطياً على متنهم 21 جندياً من سرية هيئة الأركان العامة، و34 جندياً من القوات الخاصة البحرية، و20 جندياً من سرية المظليين. ووصل جنود إسرائيليون إلى بيروت عبر الطائرات وتم إنزالهم في نقاط محددة. وتوجّه إيهود باراك، بعد أن تنكر بملابس نسائية، ووصلوا إلى مقر حركة فتح، وفتحوا النار على من فيه، فقتلوا كمال عدوان، إضافة لـ 30 فلسطينياً آخرين.
وفي أبريل عام 1988 جرى اغتيال خليل الوزير، المعروف بأبي جهاد. وهو أحد مؤسسي حركة فتح، ورئيس الجناح العسكري في حركة التحرير الفلسطينية، كما شغل منصب نائب ياسر عرفات.
اُغتيل أبو جهاد في منزله بتونس. وتقدّم جندي لمنزل الخليل الوزير. حام عدد من الجنود المتنكرين حوله. قتلوا بثلاث رصاصات سائقاً الوزير الذين كان يجلس قبالة المنزل. واغتالوا الوزير بخمس رصاصات استقرت في النصف العلوي من جسمه. احتاجت تلك العملية 20 جندياً إسرائيلياً للتغطية والتنفيذ.
في تونس أيضاً جرى اغتيال صلاح مصباح خلف، المعروف حركياً أبو إياد. وهو أحد مؤسسي حركة فتح، وقائد الأجهزة الأمنية للحركة، وقاد الحركة نفسها لفترة طويلة. وعُرف إعلامياً بأنه الزعيم والمخطط وراء عملية أيلول الأسود. كما كان معروفاً بأنه الرجل الثاني بعد ياسر عرفات.
كان اغتيال صلاح خلف عام 1991 عبر العمالة. فنفذ الاغتيال حمزة أبو زيد، العميل لدى الاحتلال الإسرائيلي. كان المُخطط والمُوجه الرئيسي هو صبري البنا، زعيم منظمة أبونضال. اُغتيل عبر اقتحام حمزة أبوزيد، وكان من طاقم الحراسة الخاصة للقيادي هايل عبدالحميد، المعروف بأبو الهول.
فتح أبوزيد نيران رشاشه على خلف وأبوالهول وفخري العمري أثناء اجتماع الثلاثة، مما أدى لاستشهادهم جميعاً. اعترف الفاعل أمام سلطات التحقيق التونسية، ونفذت فيه محكمة الثورة الفلسطينية حكم الإعدام في عرض البحر قبالة السواحل اليمنية، لتستقر جثته في القاع.
وعام 2004 عادت إسرائيل التي لم تتوقف، لاغتيال عبدالعزيز الرنتيسي. كان أستاذاً في الجامعة الإسلامية بغزة، ومن أوائل مؤسسي حركة حماس. وقضى سنوات متفرقة في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وكان صوت المُبعدين الذين تنفيهم إسرائيل للخارج.
اعتقلته السلطة الفلسطينية شهوراً طويلة، وأفرجت عنه لوفاة والدته. ثم اُعتقل مرة أخرى ليُفرج عنه بعد أن خاض إضراباً عن الطعام، وبعد أن قُصف المعتقل الذي كان فيه بالطائرات الحربية الإسرائيلية بعد أن أخلاه جنود السلطة خوفاً على حياتهم.
كان الرنتيسي دائماً ما يردد أن الموت قادم لا محالة، سواء مات بالسكتة القلبية أو بالأباتشي، وأنه يفضل الموت بالأباتشي. ليكن له ما أراد، إذ قامت طائرات إسرائيلية بإستهدافه وعدد من مرافقيه؛ فاستشهدوا جميعاً.
أما الاغتيال الأكبر أثراً فكان اغتيال إسرائيل للشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس. كان ياسين يحاول الحفاظ على علاقات طيبة مع كافة الدول والأطياف الفلسطينية، لكن تحت مظلة أن السلام مع الاحتلال ليس سلاماً حقيقياً، ولا يمكن أن يكون بديلاً للمقاومة والجهاد.
وكان الشيخ ياسين بمثابة مصدر إلهام لأجيال عاصرته، وأجيال لاحقة من الفلسطينيين. فحين وضعته السلطة الفلسطينية تحت الإقامة الجبرية، انتفض له الفلسطينيون. حاولت إسرائيل عام 2003 اغتياله، لكن فشلت المحاولة. لكن عام 2004 تم اغتياله في هجوم صاروخي شنته الطائرات الحربية الإسرائيلية.
تلك الأسماء المعدودة لم تكن هى الوحيدة التي اغتالتها إسرائيل. إذ كانت الاغتيالات سياسة إسرائيلية دائماً. فقد اغتالت جمال منصور، رئيس الكتلة الإسلامية في جامعة النجاح. بعد أن تلقى مكالمة من مذيع ادعى أنه يعمل في الإذاعة البريطانية ليتأكد أنه في مكتبه، وفور التأكد قصفت طائرة أباتشي مكتبه في الضفة الغربية. وكان يرافقه في ذلك المكتب مجموعة أخرى من القيادات.
كذلك اغتالت إسرائيل محمود أبوهنود، صاحب الخبرة الطويلة في صناعة المتفجرات المحلية. وكانت من إحدى عملياته تفجير في القدس الغربية عام 1977 قضت على 19 إسرائيلياً. نجا من محاولتي اغتيال، واحدة في سجنه، والأخرى عبر قصف سيارته. لكن في 2001 نجحت إسرائيل في اغتياله عبر قصف سيارته بعدد من الصواريخ أطلقتها طائرة أباتشي.
كما اغتالت إسرائيل صلاح شحادة، وهو من مؤسسي الجهاز العسكري الأول لحماس الذي عُرف بالمجاهدين الفلسطينيين. وقصفت إسرائيل المبنى الذي كان فيه عام 2002، في حي الدرج بغزة. ونزار ريان، القائد السياسي والعسكري، اغتالته إسرائيل في سادس أيام عملية الرصاص المصبوب.
وسوف تستمر سياسة الاغتيالات الإسرائيلية، وسوف تستمر الحركة الوطنية الفلسطينية في ولادة مزيد من القادة. كل جيل يأتي يحمل معه ثأر الجيل الذي سبقه، حلقة دائرية، ليست مفرغة، لكنها لن تنتهي إلا بتحقيق تلك الأجيال مطالبها، أن تعيش في وطنها بحرية وكرامة.